Clilstore Facebook WA Linkedin Email
Login

This is a Clilstore unit. You can link all words to dictionaries.

الدين

 

ان معرفة الإسلام تقتضي دراسة مؤسساته وتاريخه وتوجهاته كما تقتضي فهم ماذا يعني الدين للمؤمنين. من هنا التنوع داخل كل دين ، فعندما نتطلع الى ما وراء الرموز ونبحث عن معانيها ، نجد أن المواد نفسها تعني اشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. بمعزل عن هذه المعاني المختلفة ، ما يهمنا هنا هو أن نشدد على التالي:

ـ انبثاق الدين عن واقع اجتماعي ـ اقتصادي ، سياسي ـ تاريخي معقد وتطوره بتطور هذا الواقع.

ـ اتصال الدين بالمؤسسات الاجتماعية الاخرى (اقتصادية سياسية تربوية عائلية)

ـ الدين يقوم بوظائف محددة ويُلبي حاجات ظاهرة وخفية.

ـ تنوع التفسيرات وتناقضها أحياناً.

ـ تحول الدين من قوة ثورية في مرحلة التكون الى نظام وطائفة في المراحل التالية.

ـ حصول انقسامات داخل الدين لأسباب مختلفة.

ـ استخدام الدين من قِبَل الأنظمة في تثبيت شرعيتها ، أو من قِبَل المعارضة في الحض على التمرد والثورة.

ـ اغتراب الإنسان في الدين وعنه عندما يصبح المؤمن عاجزاً تجاه المؤسسة الدينية فتجرده من قدراته الابداعية وتسيطر متعالية عليه وتغتني على حسابه فيفتقر حتى في صلب وجوده الروحي ، وعندما تسود الطقوسية في الممارسات الدينية وتتحول القيم من قوة من أجل الإنسان الى قوة فوقه وضده.

يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في معالجته للإسلام على الصلة الوثيقة بين الدين والسلوك اليومي الهادف أن "غايات الدين هي على الأغلب اقتصادية" مما يفسر سبب عجز الورع الديني عن ان يمنع فلاحاً أوروبياً من أن يبصق على تمثال قديس عندما لا يحقق له مطالب كان تقدم بها اليه ، وهذا يشبه المثل العربي " ما حد ببخِّر لربّه ببلاش". وقد اعتبر فيبر ان القِيَم كانت نتيجة استمدت وجودها من الأوضاع الاجتماعية التي نشأ فيها الاسلام ، فجاءت متناسقة مع الحاجات المادية لطبقة محاربة ، بمعنى أنه اعتبر ان الإسلام زواج بين قِيَم مكة التجارية وقِيم البدو المحاربين وقيم الصوفية المنسجمة مع عواطف الجماهير وحاجاتهم. ونتيجة لهذه المزاوجة ، وجهت الطبقة المحاربة الاسلام باتجاه الجهاد والاخلاق العسكرية ، ووجهته الطبقة التجارية في المدينة باتجاه التشريع ، ووجهته الجماهير بالاتجاه الصوفي والهرب الضبابي.

براين تيرنر يرى أولاً ان الصراع السياسي بين الأمبراطورية البيزنطية والفارسية أضعفهما معاً وتسبب بحدوث فراغ سياسي في المنطقة ، وثانياً استفحال الخلاف بين البدو والحضر في الجزيرة العربية بعد بروز مدينة مكة كمركز تجاري مما ادى الى تطورات مهمة في البنى الاجتماعية والسياسية والحياة الثقافية.

دوركهايم في حديثه عن الدين بشكل عام ـ وليس الإسلام ـ يرى ان الدين هو رمز المجتمع والمعبر عن وحدته وعصبيته. ان إله العشيرة، حسب مفهوم دوركهايم، ليس سوى العشيرة نفسها مشخصنة أو ممثلة بالإله نفسه. وبذلك تكون عبادة الإله هي في الواقع عبادة المجتمع ، وتكون وظيفة الدين الأساسية هي تعزيز عصبية المجتمع ووحدته ، وهذا يذكرنا بدور الإسلام في توحيد الجزيرة العربية ـ بدواً وحضراً ـ وتوجهوا معاً بدلاً من التوجه القبلي ضد بعضهم البعض ، الى الخارج فكانت الفتوحات الإسلامية الصاعقة.

الدين والعائلة العلاقة بين العائلة والدين تتصف بالتكامل والتناقض معاً. فحاول الاسلام استبدال الولاء القبلي بالولاء الديني ، ولكنه من ناحية اخرى أكد على أهمية الأسرة كنواة للمجتمع وحض على الطاعة وإكرام الأهل. كما أن الأفراد يرِثون دينهم وينشأون على تعاليمه في العائلة ، وأن الأعراف العائلية قد تتناقض مع الأعراف الدينية وتتخذ الأسبقية عليها ، والدين بدوره ثبَّت النظام الأبوي على حساب النظام الأمومي وشكَّل مصدراً أساسياً لكثير من العادات والقِيم التي تنظم الزواج والطلاق والإرث والعلاقات ضمن الأسرة.

فيما يتعلق بالتناقض والتكامل بين العائلة والأسرة ، فقد اعتبر البعض ان تاريخ الإسلام هو تاريخ صراع بين القبيلة والإسلام ، بينما يرى آخرون أن التكامل هو الصفة السائدة ، حيث أن الولاء للعائلة والولاء للدين لا يشكلان مرحلتين في تطور الوعي ، على العكس ، إنهما متكاملان ويؤلفان جزءاً لا يتجزأ من الوعي التقليدي بجميع أبعاده. وقد أظهرت إحدى الدراسات في لبنان أنه كلما ازداد الإغتراب عن العائلة ازداد الاغتراب عن الدين وبقدر ما ازداد الاندماج في العائلة ازداد التدين والولاء الطائفي. وبين أهم أوجه التكامل وجود تشابه بين صورة الاب وصورة الله في أذهان المؤمنين من مختلف الأديان. وربما مرّت عملية الامتداد والتعميم والتجريد في اربع مراحل اساسية : مرحلة تكوُّن اله خاص بالأسرة أو البيت ، ومرحلة ظهور إله خاص بالقبيلة أو مجموعة من القبائل أو إله خاص بالمدينة ، ومرحلة نشوء إله خاص بالمجتمع ككل ، وأخيراً مرحلة أقصى من التجريد والتعميم بنشوء فكرة رب الكون أو الله.

في المرحلة الأولى كان الأب موضوع العبادة وكانت الطقوس تُمارس في العائلة ورأس العائلة هو كاهنها أو إمامها ، فالعائلة كانت وحدة دينية لها إلهها الخاص وكانت العبادة المشتركة اساس حياة العائلة ومقياساً للعضوية فيها ، وبما انه كان لكل عائلة آلهتها أو إلهها الخاص فقد عرف المجتمع تعدد الآلهة.

وفي المرحلة الثانية تحول رب الأسرة الى رب القبيلة عندما تمكنت احدى العائلات ان تسيطر على غيرها .

وفي المرحلة الثالثة ، تحول اله القبيلة أو المدينة الى إله المجتمع بتغليب قبيلة على مختلف القبائل أو بسيطرة المدينة على بقية المجتمع وحصول مركزية في الحكم. خلال هذه المرحلة كانت المدينة تعبد عدة آلهة هي آلهة عائلاتها وآلهة القبائل التي ترتبط معها في علاقات تجارية (كما تجسد ذلك في مكة قبل الاسلام).

وفي المرحلة الرابعة ترسّخت فكرة الله الواحد واصبح رب الكون ولا يقبل الإشراك والتعدد (كما هو الحال في الاديان التوحيدية). إن أصول هذه العلاقة الأولى بين العائلة والدين ، أو بين صورة الأب وصورة الله بشكل خاص ، ما تزال حاضرة في ظواهر طبقة السادة ، والطرق الصوفية ، ومزارات الأولياء ، والاعتقاد بالجن والتقمص ، والنظرة الى الله من قبل المؤمنين.

وكما ان الإنتساب لعائلة النبي كان مصدر جاه ونفوذ وغنى ، كذلك كان الانتساب لمؤسسي الطرق الصوفية. بل ان عبادة الأولياء هي في الواقع عبادة السلف في الوقت الحاضر. فحين يُرفع السلف الى مقام الأولياء استفاد ابناؤه واحفاده والسلالة من بعدهم من النذور التي تقدم اليه ، وهي نذور يتقدم بها فقراء المؤمنين فيغتني السادة القيِّمون عليه. فالمؤمن توصل الى ضرورة اقامة واسطة بينه وبين الله (الولي) بعد ان ابتعد الله عن صورة الأب وأصبح ظاهرة بالغة التجريد وبعيد الحضور. بكلام آخر ، أعاد المؤمن في الاوساط الشعبية الله الى اصوله ، اي الى الأب الذي يمكن الاتصال به مباشرة واقامة علاقة شخصية ملموسة به. مهما بلغت فكرة الله تجريداً فهو في تصور المؤمنين يوصف كالأب بالرؤوف والكريم والودود والمحب الرزاق والعادل الجبار والمهيب والرحيم ، والغضوب والمنتقم والمعاقب والقهار ، والعقاب عند كليهما رحمة. من هنا الأقوال الشعبية " غضب الأب من غضب الرب:" و " رضى الأب من رضى الرب" . وفي الأصل كان الرزق والتوكل على الأب فأصبح يُقال الرزق أو التوكل على الله أيضاً.  

الدين والطبقات الإجتماعية

1 ـ إسهام الدين في إضفاء الشرعية على النظام والطبقات الحاكمة: نشأت طبقة ارستقراطية في المجتمعات الاسلامية وجدت في الدين طريقها الى الثروة والمجد ، فبتوسع الفتوحات كثرت الاموال في يد المسلمين..ولم يعد لهم من الزهد والورع ما كان للرسول وصحابته ، وتميزت الطبقات فأصبح هناك فقراء مُدقِعون وأغنياء مُترعون. وقد استغل المترفون احكام الاسلام ليستمتعوا بزينة الدنيا. وبهذا تكونت طبقات اجتماعية جديدة وعائلات لها امتيازاتها كالمهاجرين والانصار واهل بدر واهل القادسية واصحاب النسب الهاشمي والقرشي ...فالهاشميون اصبحوا من اهل السعة والرخاء ، يتمتعون بشرف الملك ولا يحملون اوزاره فانغمس اكثرهم في الترف ، ومع الزمن امتلكوا اراضِ شاسعة وحدث التحول الطبقي من فكرة النسب الرفيع الى ارستقراطية مالكة للأرض ، فترسّخ التباين الاجتماعي والاقتصادي بينها وبين بقية العرب. ومن الواضح ان الناس ينظرون الى دينهم ويفسرونه من مواقعهم الخاصة في البنية الطبقية وحسب علاقتهم بالطبقة الحاكمة ، فرجال الدين وحتى ممن يُسمَّون بالمفكرين يُجهدون انفسهم في اضفاء الشرعية الاسلامية على النظام الذي يرتبطون به مهما كان نوعه.

فالدين في مرحلته التأسيسية الأولى كثيراً ما يكون ثورة شعبية ضد النظام القائم ولكنه يتحول فيما بعد الى مؤسسة مرتبطة بالنظام. فيقول ماكس فيبر " ان احداُ من الانبياء لم يأت من طبقة رجال الدين والسبب هو ان رجل الدين يستمد سلطته من المؤسسة ومن مركزه فيها وموقعه في الهرم الطبقي ، فيُصر على رموز المكانة التي يجهِّزه بها منصبه ويعمل في خدمة التقاليد المقدسة. وعلى عكس رجل الدين تقوم دعوة النبي على التغيير واخلاقه ومواهبه وعبقريته في زمن ووضع يسمحان بنشوء الدعوة وانتصارها. فدعوة الانبياء هي نتيجة لإحساس بمأساة الانسان والمجتمع في عصره فيعلن مساواة جميع المؤمنين في الإيمان وأمام الله. أما رجل الدين فينشر أفكار المؤسسة ويُصر على الإمتثال لتقاليدها لقاء أجر. والجدير بالذكر ان الطبقات الحاكمة تُشجّع على التديُّن عندما يكون من الممكن استعماله كأداة للسيطرة.

2 ـ تسويغ الفقر: دعا التراث الديني للزهد وقلل من اهمية هذا العالم فأسماه "الدنيا" و "البسيطة". فيقول ابو حامد الغزالي (متوفي 1111 م) بأقوال تُمجِّد الفقر وتعتبره فضيلة رغم قول النبي " كاد الفقر ان يكون كفراً" ، فالغزالي أورد الأحاديث التالية " يدخل فقراء امتي الجنة قبل اغنيائها بخمسمائة عام" ، " مفتاح الجنة حب المساكين والفقراء لصبرهم" ، "أحبُّ العباد الى الله تعالى الفقير القانع برزقه" ، " الجوع عند الله في خزانة ، لا يُعطيه إلّا لمن أحبه" ، الخ...وقد جاء التراث الصوفي والتراث الشعبي ليؤكد على الزهد بالدنيا وعلى الصبر فيقال لنا " القانع غني وإن كان جائعاً" ، " القناعة كنز لا يفنى" ، " الحكمة في البطن الخالي" ، " والصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد" ، " سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري".

فالصبر هو بين اهم القِيم السائدة في التراث الديني والشعبي ، فآيات القرآن تتلألأ بآيات الصبر والأحاديث النبوية تدعو للصبر.

3 ـ تسويغ الطبقية : غالباً ما استفاد المحافظون الطبقيون من الآية القرآنية "أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سِخرِيا..." ...وكثيراً ما تُفسّر الآية بمعزل عن "ظروف الحياة" و"انظمة المحتمع" ، ويتم التركيز على التفاوت كما لو أنه شيء تم تحديده من قِبَل الله. وبخلاف ما توصل اليه علماء الإجتماع ، يرى رجال الدين ان سبب التفاوت والطبقات هو مواهب الأفراد ونشاطاتهم ، بينما علماء الإجتماع يرون ان الكثير من التفاوت في مواهب الأفراد هو نتيجة أكثر منه سبباً ، فالحرمان يقضي على المواهب ، وكثيراً ما يتسلم ابناء الطبقات الغنية مناصب مهمة رغم النقص الهائل في مواهبهم ، ويُحرم الموهوبون من الغنى ومن المناصب التي يستحقونها. وكما يستفيد المحافظون الطبقيون من الآية السابقة ، يستفيدون أيضاً من الآية "والله فضَّل بعضكم على بعض في الرِّزق..." وقد تطور هذا القول في المعتقدات الشعبية فيُقال "بيعطي رزقه لأنحس خلقه". ) والأمر نفسه ينطبق على حال المرأة : فالمرأة يتم حرمانها من حقها في العلم ، ويتم تنشأتها على أنها عالة وليست ذات قيمة ، لِيُقال لها لاحقا : ناقصة عقل ودين).

هذه المسوغات الثلاث ـ تسويغ امتيازات الطبقات الحاكمة وتسويغ الفقر وتسويغ الطبقية أسهمت في تكون وترسيخ واستمرار الطبقية في المجتمع العربي. ولم يُخفف من الفروقات الطبقية ولم يحقق العدالة ويحل مشكلة الفقر لا تحريم الربا ولا فرض الزكاة. وكثير من المؤمنين فهموا ان الفروقات الطبقية أمر شرعي وسُنّة ثابتة من سنن الحياة ـ وربما أسهمت الزكاة في تخفيف شعور الغني بالذنب إذ أنه يشعر حين يعطي الزكاة بأنه قام بواجبه تجاه الله والمجتمع ، وربّما رسّخت في الفقير الشعور بالإمتنان رغم ما قد تسببه الزكاة للبعض من شعور بأنهم موضع تصدُّق وإحسان.

أديان أم طوائف؟ ان الواقع الاجتماعي القائم في المجتمع العربي المعاصر هو أقرب الى الواقع الطائفي منه الى الواقع الديني. نميِّز هنا بين الدين الذي يشير الى العقيدة والنظرية والمبادئ والتعاليم لجماعة ما ، والطائفية التي تشير الى التنظيم الاجتماعي الذي تعتمده الجماعة الدينية مما يحدد هوية المؤمنين وولاءاتهم. فالطائفية هي كيان اجتماعي له مؤسساته وأوقافه وشعاراته وعاداته. ويغلب التوجه الطائفي في حالات عدة منها ضعف الدولة المركزية وسيطرة الجماعات ، وعندما يحدد دين الدولة بدين الاغلبية في مجتمع تعددي ، وفي حال التفرقة في الحقوق والواجبات فتتمتع طائفة على حساب اخرى بالثروة والجاه والنفوذ.

حسب التنظيم الطائفي ، توزع المسلمون بين سنة وشيعة واسماعيلية ودرزية وعلوية وشافعية الخ ، وتتنوع ضمن الطائفة الواحدة الانتماءات الاثنية والقبلية والمدارس التشريعية والحركات الدينية والمعيشية (المدينة ، القرية ، البادية). كذلك توزع المسيحيون بين كاثوليك وارثوذكس وموارنة واقباط وانجيليين الخ وتتوزع هذه الطوائف حسب الانتماء الإثني فيكون هناك كاثوليك شرقيون ولاتين وسريان وكلدان وأرمن وآشوريون الخ. والطائفية قد تتحول الى نظام سياسي رسمي تتبناه شرعياً انظمة الحكم ، كما يبدو من الصهيونية في فلسطين والطائفية في لبنان والوهابية في السعودية.

وقد افتى ابن تيمية بتأييد الحاكم ولو كان ظالماً بحجة ان ذلك خير من الفتنة وانحلال المجتمع ، وقد اصدر بعد ذلك فتاوى في شرعية الحرب ضد اصحاب البدع (وقد عنى الدروز والنصيرية ) فتعرض الموحدون الدروز لعدة مذابح شملت سبي النساء والأولاد وتعليق رؤوس الرجال في اعناق أخواتهم وبناتهم وذبح الأطفال الرضع في حجور امهاتهم ، وقد نشأ نتيجة لذلك نظام سري يوصي بالكتمان والتظاهر بالموالاة حفظاً للسلامة وتجنباً للإضطهاد. وقد مارس التقية في الاصل الشيعة اتقاء لاضطهاد بني امية ، فكانوا يبدون لخلفائهم الطاعة ويضمرون العداء.

فالإضطهاد وقع رغم انه يخالف التسامح الذي دعا اليه القرآن "لا إكراه في الدين" ، " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ، "ولو شاء الله ما اشركوا ، وما جعلناك عليهم حفيظاً وما انت عليهم بوكيل" ، " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة " . فالإضطهاد ليس امراً دينياً بل هو ظاهرة طائفية مرتبطة بالصراع السياسي الاقتصادي والامتيازات التي تتمتع بها بعض الجماعات على حساب البعض الآخر. والترتيب الطبقي هو الذي يفسر النزاعات الطائفية والاختلاف في المواقف والاتجاهات السياسية.

الطائفية والصهيونية تشكلان نوعاً من الوعي التقليدي الملتزم بتثبيت انظمة نشأت من أجل تأمين سيطرة جماعة طائفية على جماعات اخرى. فكلاً من الطائفية والصهيونية يقوم على فكرة خلق وطن قومي لطائفة معينة على حساب الجماعات الأخرى مما يُسهم في اضفاء الشرعية على التمييز الطائفي. مثل هذه الطائفية تحد من الاندماج الاجتماعي ، فيقول مثل شعبي " اللي بيتزوج من ملة غير ملته بيوقع بعلة غير علته".

الطائفية مرتبطة بالنظام الاقتصادي السائد في المجتمع ، وقد يكون ظاهر النزاع الطائفي دينياً ولكنه عملياً نزاع اقتصادي. وبهذا فالطائفية تعتبر اداة استراتيجية سياسية اقتصادية وليست توجهاً دينياً بحد ذاته. والطائفية اداة سهلة لإخفاء جوانب الاستغلال الاقتصادي والاستبداد السياسي. كما ان الفروقات الطبقية والنظام الطبقي العام هما اللذان يسهمان في حصول النزاعات الطائفية وتجددها ، وليست الفروقات في المعتقد.

العلمنة : نظام عقلاني يتساوى أمامه جميع اعضاء المجتمع في الحقوق والواجبات ويشمل فصل الدين عن الدولة، والغاء الطائفية السياسية، وتعزيز المحاكم المدنية ، وتوحيد قانون الاحوال الشخصية ، ووضع السلطة في الشعب ، واعتبار القوانين نسبية تتغير بتغير الاحكام والظروف والازمنة ، وتعزيز الثقافة العلمية ، وتحرير الدين من سيطرة الدولة.

والعلمنة من المواضيع التي يُساء فهمها في العالم العربي ، فتقترن في اذهان البعض بالإلحاد والمادية وإلغاء الدين ، الخ. يعتبر البعض ان العلمنة مستوردة من الغرب وغريبة عن طبيعة المجتمع العربي. والواقع ان العلمنة مبدأ انساني وقناعة تمت تدريجياً في اوساط وبلدان مختلفة نتيجة لتحولات اجتماعية بنيوية ولتجارب انسانية عالمية. وقد اتت في المجتمع العربي استجابة لمشكلات وحاجات اساسية متداخلة كالحاجة للاندماج الاجتماعي في مجتمع مجزأ ، والى تساوي المواطنين امام القوانين بصرف النظر عن انتماءاتهم ، والحد من اساءة استعمال الدين من أجل أغراض سياسية وطبقية ، والمساواة بين الرجل والمرأة ، والحد من سيطرة الاتجاه السلفي الغيبي والتوكيد على الحداثة والمستقبل والثقافة العلمية ، وتبدل فهمنا للقوانين من اعتبارها مطلقة ومقدسة صالحة لكل مكان وزمان الى اعتبارها مبادئ اجتماعية عامة نسبية متبدلة بتبدل الظروف والأمكنة ...وتبدل مفاهيمنا عن الحاكم والدولة والسلطة من اعتبارها تجسيداً لإرادة الهية الى اعتبارها تعبيراً عن ارادة انسانية وأدوات اجتماعية لتنظيم المجتمع، ومنع استغلال الدين والهيمنة عليه من قبل الدولة والعائلات الحاكمة.

واعتبر آخرون العلمنة موقفاً ايجابياً وليس سلبياً من الدين إذ يرى فيها وضع حد لإساءة استعماله من قبل الطبقات الحاكمة ، أي الدين الذي يسوّغ التسلُّط ويعلم المؤمن القناعة بحرمانه والطاعة لأسياده. وتحرص هذه العلمنة على عدم الإكراه.

ويرى البعض العلمنة بديلاً للنظام الصهيوني العنصري في فلسطين فيطالب بانشاء دولة ديمقراطية علمانية يتعايش فيها ابناء جميع الطوائف دون تمييز. هذا ما سعت اليه المقاومة الفلسطينية مثلا بعد 1967 .

ورأى البعض خطأً أن المسيحية تختلف جوهرياً عن الإسلام بالنسبة لموقفها من العلمنة. ويعدو هذا الخطأ لعدم التمييز بين النصوص والكنيسة والسلوك اليومي الفعلي، وبين الدين والطائفة. وإذا كان من فرق حقيقي بين المسيحية والاسلام في هذا المجال فهو ان المسيحية سيطرت لمدة على الدولة وحافظت على استقلالها النسبي، بينما سيطرت الدولة الى حد بعيد على الاسلام وسلبته بعض استقلاله خاصة في بعض البلدان والفترات الزمنية. معيارياً يجب على الحاكم السياسي أن يخضع للشريعة كما يفسرها العلماء. أما في الواقع ، فإن علماء الدين كانوا في مختلف عصور التاريخ الاسلامي خاضعين سياسياً واقتصادياً لحكم السياسيين. ان اعتمادهم على السلطة السياسية المسيطرة هو الذي حدد تفسيرهم للشريعة. كذلك يقال ان الاسلام اختلف عن المسيحية بعدم وجود طبقة كهنوتية ، لكن الواقع يدل على ان طبقة من علماء الدين نشأت فعلاً في التاريخ ولعبت الدور الذي لعبته الطبقة الكهنوتية في المسيحية. من هنا اصطدام المصلحين المسلمين بالعلماء والمؤسسة الاسلامية الرسمية.

وفي لبنان يستمد النظام الطائفي سنده الأول ليس من المسلمين بل من التيارات المحافظة المنتشرة بين المسيحيين الذين هم أصحاب المصلحة الفئوية باستمرار هذا النظام. فكلاً من رجل الدين المسلم والمسيحي يقاوم قانون الأحوال الشخصية العلماني الذي قد يسن حق الزواج المختلط وحق الطلاق اللذين ترفضهما الكنيسة.

ويعتقد البعض ، وخاصة رجال الدين المسلمون والمستشرقون ان العلمنة مخالفة للاسلام باعتباره ايماناً وعقيدة وشريعة تشمل احكام الاحوال الشخصية (زواج طلاق ارث الخ) والمدنية (معاملات ومبادلات من بيع وشراء) وجنائية (جرائم وعقوبات) ودستورية (نظام الحكم وأصوله ) والدولية ، الخ.

وبصرف النظر عما يمكن أن يقال حول رفض المسلمين للعلمنة ، فإنه يجدر بنا ان نشير الى الحقائق التالية: 1ـ أن الحاكم في البلدان الاسلامية لم يعد إماماً أو خليفة ، بل سلطاناً ، ولم تعد الأمة موحدة ، بل مجزأة. والطبقات الحاكمة تسيطر على مؤسسات الدين ورجاله وتستعمله لمصلحتها الخاصة ، وليس العكس. 2 ـ لا يوجد اليوم من يؤمن ان الحاكم هو ظل الله على الأرض وتجب طاعته ولو كان ظالماً. 3 ـ البيعة تحولت الى مظهر شكلي وليس فيها حرية الاختيار ، والغالبية العظمى ترى ان للضرورات احكامها. 4ـ القرآن لم يطالب المسلمين بصيغة معينة في تنظيم الدولة واختيار رئيس لها. 5 ـ الدولة العلمانية قامت في مواجهة الدولة التي يدعي رؤساؤها ان سلطتهم مستمدة من الله وليس من الناس. 6 ـ بما ان الشريعة جعلت امر قيام الدولة وتنظيمها من مسؤوليات الناس ، اصبح من حق الناس ان يفعلوا ذلك على اساس المصلحة العامة التي قد تختلف باختلاف الازمنة والامكنة.

في الواقع ، ان غالبية البلدان العربية تبنت جوانب اساسية من العلمنة شكلاً ومضموناً منذ مطلع القرن التاسع عشر. ولكن الصراع بين العلمانيين ودعاة الفكر الطائفي ما زال على أوجه ، وذلك من خلال عشرات الحركات الاسلامية الرافضة للعلمانية شكلاً ومضموناً . والنُظم السياسية القليلة التي تتخذ من الاسلام أساساً للحكم والسلطة ليست إلا ثيوقراطيات رجعية متخلفة متحجرة تمثل ربما أسوأ دعاية ممكنة لفكرة الدولة الدينية الاسلامية ، وبعض هذه الثيوقراطيات تدهورت الى أدوات للقهر السياسي وتكريس التخلف والجمود ، والى قوى سلفية تسعى الى العودة الى الماضي وتعادي التطور باسم الدين.

الدين الشعبي والدين الرسمي : فالدين الرسمي يتمثّل بالتشديد على النصوص والشريعة والتوحيد والسنة والوحي ومساواة المؤمنين امام الله ، ويُمارس على الأغلب في المدن ومن قِبل المثقفين ورجال الدين الرسميين. بينما الدين الشعبي يتمثل بالتشديد على الاختبار الروحي والتدرج في علاقة المؤمن بالله وذلك بالتعبد للأولياء والمزارات ، وعلى التأويل والرموز والصور والاشخاص اكثر من الكلمات والقواعد المجردة ، ويمارس في القرى وأحياء المدن الفقيرة. تبرز في الدين الرسمي الكلمة والسنة فيما يبرز في الدين الشعبي الشخص.

ويقوم بين الدين الرسمي والشعبي صراع يتخذ مظاهر عدة في الحياة اليومية. إذ لا تكتفي الطبقات الشعبية الفقيرة العاجزة بالتعاليم المجردة ، بل تحتاج الى وسيط يتجسد في شخص صالح يتحسس مآسيهم ويساعدهم على حل مشكلاتهم وينصرهم ضد ظالميهم ويتكلم لغتهم. على العكس من ذلك ، لا يحتاج المتعلمون والاغنياء والمتسلطون الى وسيط فيشددون على النص والوحي والسنة والشريعة. من هنا كثرة وجود قبور الاولياء والمزارات والطرق الصوفية في القرى واحياء الفقراء ، وندرتها وغيابها في المدن حيث تتمركز السلطة الدينية الرسمية وسلطة الدولة.

والنص الديني لا يحوي المزار والولي ولا يتدخل مباشرة في حياة المؤمن اليومية ، فهناك ثواب وعقاب في نهاية هذه الحياة ، وهناك واجبات على المؤمن ان يقوم بها محددة وواضحة. يقيم النص الديني الصلاة بين المؤمن والله دفعة واحدة يصبح بعدها الله تجريداً ويبقى الانسان على الارض. المزار يجعل العلاقة مع الله يومية وعند الطلب ومتلائمة مع حاجات البشر المادية في تفاصيل حياتهم المادية. في الدين يعمل الانسان لآخرته بينما في المزار يعمل لدنياه. ويتناقل الناس عشرات القصص عن كرامات الاولياء منها من اضاع جمله فنادى على الولي ونذر له نذرا فوجده حالاً ، ومن ضلّ طريقه فاستنجد بأحد الأولياء فحضر الولي في صورة رجل عادي ودله على الطريق ثم اختفى ، ومن طلبت ان يشفى ولدها من مرضه الخ...والويل لمن يشك في كرامات الاولياء ، فيتهم بالكفر أو الإلحاد. وقد وصف ارنست غيلنر الصراع القائم في الاسلام بين الدين الرسمي والدين الشعبي بما اسماه نظرية البندلوم ، أو التأرجح بين سيطرة احد القطبين: قطب التوحيد والسنة والوحي ، وقطب التعبد للأولياء والتدرج في علاقة المؤمن بالله. وقد اسس غيلنر نظريته على مفهوم ديفيد هيوم التي تقول بالصراع والتأرجح بين سيادة تعدد الآلهة والتوحيد ، فبرأيه المجتمعات تنتقل من تعدد الآلهة الى التوحيد ومن ثم الى التعددية من جديد عندما يصبح مفهوم الله شديد التجريد فيحتاج المؤمن الى وسيط حسي يصل بينه وبين الله.

والمزار والولي هي محاولة لتجاوز حالة الاغتراب والعجز بسبب الاوضاع السائدة ، فحالات الظلم والقهر التي يتعرض لها الفقراء ولا يجدون في المجتمع ومؤسساته وافراده من يرفع عنهم ذلك ، هي التي تدفعهم للجوء الى مثل هذه الحلول.

إن الدين ، إذا عرَّفناه كواقع اجتماعي وليس كنصوص) لا يستطيع أن يُشكِّل حركة انقاذ ثورية في المجتمع العربي ، وذلك لأسباب عديدة : 1 ـ الدين تحول من حركة ثورية الى مؤسسة مرتبطة بالانظمة القائمة. وفي عُصور التخلف تنشغل المؤسسات وتُشغل المؤمنين بالتفاصيل على حساب الجوهر ، بل تُصبح التفاصيل هي الجوهر. هنا نذكر ان الأنبياء لم يأتوا أبداً من طبقة الكهنوت. 2 ـ الواقع الاجتماعي الحاضر هو واقع طائفي اكثر منه واقع ديني.3ـ الدين الممارس في الحياة اليومية يعاني من انفصام بين الدين الرسمي والدين الشعبي. 4ـ الدين كقناعات وتفسيرات تحددها المؤسسة ، أو كنظرة سائدة تقدمها طبقة العلماء يتعارض مع روح العصر. ويقول المفكر المغربي علال الفاسي "في الثورات العظيمة التي قامت في مختلف العالم كانت ثورات على الانظمة الكهنوتية ، ولذلك لا يمكننا إلا ان نكون في مقدمة الثائرين على كل نظام كهنوتي من شأنه ان يتدخل بين الافراد والله. والنظام الكهنوتي قام فعلاً في المجتمعات الاسلامية رغم كل ما نعرفه نظرياً عن غياب الكهنوتية وعدم التوسط في الاسلام.

ونذكر في معرض حديثنا عن تعارض النظرة الدينية الغيبية السائدة مع روح العصر ما خبره المفكر الفرنسي جان بول سارتر وغبر عنه في دراسته مسألة منهج ، وقد توصل الى القناعة التالية "ارى بين القرن السابع عشر والقرن العشرين ثلاثة عصور ...اسميها باسماء الرجال الذين سيطروا عليها: هناك عصر ديكارت ولوك ، وعصر كانت وهيغل ، وهناك أخيراً عصر ماركس. هذه الفلسفات الثلاث تصبح كل بدورها مصدر كل فكر خاص وافق الثقافة كلها ، فليس بالإمكان تجاوزها طالما ان الإنسان لم يتجاوز اللحظة التاريخية التي تعبر عنها. ...لقد فقد الدين دوره على الانقاذ في المجتمعات الغربية العلمية فأعلن نيتشه موت الله. لقد أصبحت المسيحية مؤسسة واصبح خليفتها مُلكاً فلو عاد المسيح في هذا العصر الى أوروبا أو اميركا لصلبته الكنيسة. 5 ـ واقع العالم المعاصر هو واقع قوميات وليس واقع جماعات دينية. 6 ـ ان الثورة كانت دائماً محاولة لتجاوز اغتراب الانسان او عجزه في المجتمع وتجاه المؤسسات التي ينتسب اليها. ما نجده حالياً ان هناك نوعين من الاغتراب على الاقل فيما يتعلق بعلاقة الانسان بالمؤسسة الدينية في المجتمع العربي. هناك اولاً ، اغتراب من الدين أي رفضه كمؤسسة ومنطلقات تحد من التغيير. وهناك ثانياً اغتراب في الدين بمعنى ان المؤمن بقدر ما يندمج في الدين بقدر ما يتحول الى كائن عاجز. لقد وضع المؤمن الكثير من نفسه في الدين وأسقط ذاته على معبوداته فأصبحت المؤسسة الدينية قوية غنية فيما أصبح هو عاجزاً فقيراً حتى في صلب نظرته الى حياته وتحديد معناها. فهو مُثقل بالتقاليد الدينية التي ترسَّخت في عصور التخلف ، اذ اصبحت المؤسسة خارجة على حياته ومستقلة عنه ومتعالية عليه وضده. بكلام آخر ، يتجلى الاغتراب في الدين في الظواهر التالية السائدة في المجتمع: ـ أصبحت المؤسسة الدينية غنية واصبح المؤمن فقيراً في المعنى المادي والمعنى الروحي. أول ما يلحظه المراقب في المدن والقرى ضخامة المؤسسات الدينية وفخامتها محاطة بأكواخ المؤمنين الفقراء الذين يستمرون بالتبرع من القليل الذي يملكونه. ـ بقدر ما ينسب المؤمن لمعبوداته من جبروت بقدر ما ينسب الى نفسه من عجز ويتحول الخالق الى مخلوق. ـ طغت الطقوسية في أوساط المؤمنين حتى انهم يمارسون الدين دون تحليل ودون تمييز بين الوسائل والغايات ، والظاهر والمعنى ، فأصبحت جميعها متساوية في قيمتها ومدلولاتها ووظائفها ، وتمارس من اجل ذاتها. ـ أصبح المؤمن يعتبر نفسه فاضلاً بقدر ما يقلد ويمتثل ويعود للماضي وليس بقدر ما يبدع ويتمرد ويستشرف المستقبل (صار الابداع بدعة). ـ تستعمل السلطات القائمة الدين اداة للقمع والاستمرار في الحكم.

بسبب كل ذلك يغترب الانسان في الدين وينتقل من موقع القدرة الى العجز ، والابداع للتقليد ، والمركز الى الهامش. ومع انه قد يُسهم في التحرير من التسلط الخارجي والصراع في سبيل الاستقلال ، وقد يُشكّل هوية ومنطلقاً لحركات سياسية معارضة ، ولكنه في اوضاعه الحالية غير قادر على تشكيل حركة انقاذ ثورية ، لأن الثورة تقصد تجاوز حالة الاغتراب لا الى ترسيخه. انه باختصار طاقة تغريبية دون رؤيوية جديدة ودون برنامج لبناء مجتمع جديد.

Clilstore

Short url:   https://clilstore.eu/cs/1772